الدور المتصاعد للإعلام في تشكيل الرأي العام
لقد شهدت وظيفة الإعلام تحولًا عميقًا في العصر الحديث، متجاوزة الوصف التقليدي لها كمرآة تعكس الواقع. اليوم، يُعتبر الإعلام، بأطيافه المتنوعة من وسائل تقليدية وشبكات رقمية، قوة هائلة تُسهم بشكل مباشر في صياغة وتوجيه وتحديد أولويات الرأي العام. هذا الدور المتصاعد يفرض تحديات كبيرة على المؤسسات السياسية والاجتماعية، نظراً للسرعة التي تنتقل بها المعلومات، والآليات الجديدة التي تُستخدم لتأطير القضايا.
الأدوات الإعلامية في بناء التصورات العامة
إن القوة الحقيقية للإعلام تكمن في قدرته على التحكم في مسار المحادثة العامة. هناك آليتان رئيسيتان تُستخدمان لتحقيق ذلك:
- وضع الأجندة (Agenda Setting): لا يحدد الإعلام ما يفكر فيه الجمهور فقط، بل يحدد حول ماذا يفكر. التغطية المكثفة لقضية معينة، مثل التغيرات المناخية أو التكنولوجيا المالية، ترفع من أهميتها في الوعي العام وتجعلها أولوية قصوى بالنسبة للمواطن العادي وصناع القرار على حدٍ سواء.
- التأطير (Framing): يتعلق الأمر بالزاوية التي تُقدم بها المعلومة. على سبيل المثال، يمكن لوسيلة إعلامية أن تقدم قرارًا حكوميًا حول الضرائب باعتباره “إصلاحًا ضروريًا لتحقيق الاستدامة المالية”، بينما تقدمه وسيلة أخرى باعتباره “عبئًا يثقل كاهل المواطن البسيط”. هذا التأطير يُشكل الإطار المعرفي الذي يُفسر المتلقي من خلاله الحدث، مما يؤدي إلى تباينات جذرية في الرأي العام.
النجاح في تطبيق هاتين الآليتين يعني أن الإعلام لم يعد مجرد مُبلّغ، بل أصبح صانعًا للواقع الاجتماعي، حيث تتشكل القناعات والآراء قبل أن يتمكن الأفراد من التحقق من الحقائق بشكل مستقل.
تحديات العصر الرقمي وأثرها على الرأي العام
أدخلت شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية عناصر جديدة، مما زاد من تعقيد الدور الإعلامي:
- سرعة الانتشار وتضخيم الاستقطاب: أتاحت المنصات الرقمية انتشار المعلومة، بما فيها الأخبار الكاذبة والشائعات، بسرعة فائقة. هذه السرعة تُعزز الاستقطاب، حيث يتخذ الأفراد مواقف حادة بناءً على معلومات غير مؤكدة أو مُحرفة قبل أن تتدخل وسائل الإعلام التقليدية للتصحيح.
- خوارزميات التخصيص (Filter Bubbles): تعتمد الخوارزميات على تزويد المستخدمين بالمحتوى الذي يتوافق مع اهتماماتهم وآرائهم المسبقة. هذا يخلق “فقاعات ترشيحية” تُحجب وجهات النظر المختلفة، مما يقلل من قدرة الجمهور على بناء رأي عام موحد وموضوعي، ويُعمق الانقسامات الاجتماعية.
- تآكل الثقة: مع تعدد المصادر وصعوبة التمييز بين الإعلام المهني والمحتوى الذي يُنتجه الأفراد، تراجعت ثقة الجمهور في وسائل الإعلام التقليدية كمرجع وحيد للحقيقة. هذا التآكل يُفسح المجال لتأثير المؤثرين وصناع المحتوى الفرديين الذين قد لا يخضعون للمعايير المهنية.
دور الرأي العام في قيادة القرار السياسي والاقتصادي
الرأي العام الذي تُشكله هذه المنظومة الإعلامية المعقدة ليس ظاهرة هامشية، بل هو قوة ضغط حقيقية:
- قيادة الاستجابات الحكومية: نادراً ما تستطيع الحكومات تجاهل قضية تحظى بتغطية إعلامية مكثفة. فإذا تم تأطير قضية بيئية أو أزمة اجتماعية بشكل مؤثر، يُجبر هذا الضغط السلطات على اتخاذ إجراءات فورية، حتى لو لم تكن تلك الإجراءات ضمن خططها الأصلية.
- التأثير على السلوك الاستثماري: يمكن للتغطية الإعلامية أن تؤثر على الأسواق. الأخبار الإيجابية أو السلبية حول قطاع معين أو حول الاستقرار السياسي لدولة ما، يمكن أن تقود إلى تدفق أو سحب رؤوس الأموال، مما يثبت أن الرأي العام يُترجم مباشرة إلى قرارات اقتصادية.
إن الدور المتصاعد للإعلام يضع على عاتق الجمهور مسؤولية أكبر تتطلب تطوير مهارات التفكير النقدي، والبحث عن مصادر معلومات متنوعة، لتجنب الوقوع في فخ الاستقطاب والتوجيه الأحادي.