كيف تؤثر السياسة العالمية على الاقتصاد العربي؟
انعكاس التوترات الدولية: تحليل تأثير السياسة العالمية على الاقتصاد العربي
يشكل الاقتصاد العربي مساحة حيوية وديناميكية تتأثر بعمق بالتغيرات الجيوسياسية والسياسات الدولية. نظراً لدور المنطقة كمركز عالمي لإنتاج الطاقة وكممر تجاري استراتيجي، فإن القرارات المتخذة في واشنطن، أو بكين، أو بروكسل، تجد صداها المباشر في أسواق الرياض والقاهرة والدوحة. إن فهم تأثير السياسة العالمية يتجاوز مجرد مراقبة أسعار النفط؛ بل يمتد إلى سلاسل الإمداد، وتكاليف الاقتراض، وتدفقات الاستثمار الأجنبي.
البعد الأول: الهيمنة المتغيرة لسوق الطاقة والأمن
تعتبر العلاقة بين إنتاج الطاقة والأمن السياسي هي القناة الأكبر لنقل التأثيرات العالمية إلى المنطقة، وهي قناة تعمل باتجاهين:
- الأزمة الجيوسياسية وتكاليف الطاقة: أي توتر كبير في الممرات المائية الحيوية أو مناطق الإنتاج يؤدي فوراً إلى ارتفاع تكاليف التأمين والشحن. هذا الارتفاع لا يرفع فقط إيرادات الدول المصدرة للطاقة مؤقتاً، بل يزيد بشكل حاد من فاتورة واردات الدول العربية المستوردة للنفط والغاز، مما يغذي التضخم ويضغط على احتياطيات العملات الأجنبية.
- قرارات المناخ العالمية: تؤثر الأجندات السياسية العالمية المتعلقة بمكافحة التغيرات المناخية، خاصةً القرارات المتخذة في التكتلات الغربية حول التحول نحو الطاقة النظيفة، على مستقبل الاستثمار في الوقود الأحفوري. هذا يدفع الدول العربية المنتجة للطاقة إلى تسريع برامج التنويع الاقتصادي والتحول نحو الاستثمار في الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية، خوفاً من انخفاض الطلب المستقبلي.
مسألة الدين والسياسة النقدية العالمية
تخضع الاقتصادات العربية التي تعتمد على الاقتراض الدولي بشكل مباشر للقرارات السياسية والنقدية التي تتخذها القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية:
- أسعار الفائدة وسعر الدولار: عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم الداخلي، تزيد تلقائياً تكلفة خدمة الدين الخارجي المقوم بالدولار على الدول المقترضة في المنطقة. هذا يستهلك جزءاً أكبر من ميزانياتها ويقلل من قدرتها على الإنفاق على المشاريع التنموية والخدمات.
- الاستثمار الأجنبي: تؤثر العوامل السياسية الدولية على الرغبة في المخاطرة لدى المستثمرين العالميين. ففي أوقات عدم اليقين الجيوسياسي، يميل المستثمرون إلى سحب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة، بما فيها الأسواق العربية، بحثاً عن ملاذات آمنة، مما يؤدي إلى تراجع أسواق الأسهم المحلية والتمويل الجريء.
الرهان على التحالفات والتكنولوجيا
في المقابل، تستغل الدول العربية التنافس السياسي العالمي لخلق فرص اقتصادية. هذا يظهر بوضوح في محاولة المنطقة للموازنة بين الشراكات الشرقية والغربية:
- تنويع الشركاء التجاريين: يتم اتخاذ قرارات سياسية استراتيجية للانضمام إلى تكتلات اقتصادية جديدة مثل مجموعة البريكس، أو تعميق العلاقات التجارية مع آسيا، بهدف التقليل من التبعية الاقتصادية لجهة واحدة، وتحصين الاقتصاد ضد أي ضغوط سياسية محتملة.
- صراع التكنولوجيا: يؤدي التنافس العالمي على التفوق التكنولوجي (خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني) إلى محاولات من القوى الكبرى لـ “تصدير” تكنولوجياتها ونظمها إلى المنطقة. تستفيد الدول العربية من هذا التنافس للحصول على أفضل صفقات لنقل المعرفة وتوطين الصناعات التقنية، مما يسرع من برامج الرقمنة.
إن التفاعل بين السياسة العالمية والاقتصاد العربي هو لعبة شد وجذب معقدة. فبينما تتعرض المنطقة لصدمات من الخارج، فإنها تحاول في الوقت ذاته استخدام نفوذها الاقتصادي المتزايد لتكون صانعاً للقرار وليس مجرد متلقٍ لتداعياته.